رأي

التقدم السريع نحو الهاوية: في ظلّ عدم وجود مظلة إنقاذ

السعي الحثيث من أجل التأسيس الفوري لإرساء الضمانات الإجتماعية في لبنان، بقلم يوكي موكو ممثلة اليونيسف في لبنان، وربا جرادات المديرة الإقليمية للدول العربية في منظمة العمل الدولية.

بيان | ٠٧ ديسمبر, ٢٠٢٠
بعد تفاقم الأزمات على انواعها في لبنان، وتدحرجها خلال العام الماضي بعبثية في كل المجالات والميادين، قد يتوقع البعض استحالة حصول مزيد من الأزمات بعدما وصلت البلاد الى الدرك الأسفل. لكن، ما يراه البعض الآخر مختلف كليا. ففي خلال أسابيع قليلة مقبلة، يُرجح أن يبدأ رفع الدعم الرسمي عن قائمة طويلة من المنتجات المدعومة، ما يعني سقوط لبنان مجددا في أزمة أخرى جديدة.

إستنادا الى التحليل الذي قمنا به، سيكون تأثير رفع دعم الأسعار على الأسر الأكثر ضعفا في البلاد هائلا، في ظلّ عدم وجود خطوة موازية من شأنها التخفيف من حدة هذا السقوط. في هذا الإطار يشير التقييم الذي أجريناه حول نظام المساعدة الإجتماعية في لبنان على وجود فجوة واسعة- تمثلت في غياب أي مخططات حول المنح والمساعدات الإجتماعية- والحاجة الماسة لإرساء هكذا مخطط من أجل دعم الأسر الأكثر ضعفا على المدى الطويل.

طوال أعوام مضت، أنفقت الحكومة بين 1,5 و 2 مليار دولار سنويا على دعم قطاع الكهرباء في لبنان. ويصل دعم القمح والقطاعات الإنتاجية الأخرى الى 30 مليار دولار سنويا. وهذه السنة، إثر الإنخفاض الحاد في سعر الصرف غير الرسمي، عمل مصرف لبنان على دعم الوقود والقمح والأدوية والمستلزمات الطبية عبر تسليم دولار أميركي للمستوردين بسعر الصرف الرسمي 1515 ليرة لبنانية/ مقابل الدولار الواحد، كذلك  دعم سلة من السلع الإستهلاكية الأساسية وفق معدل 3900 ليرة لبنانية/مقابل الدولار الواحد. وقُدرت كلفة الدعم الإجمالية هذه بنحو 4 مليارات دولار أميركي، في سنة 2020.  

لو لم يكن هذا الدعم الحكومي متوفرا، لكان المستوردون يحصلون على الدولار بسعر الصرف غير الرسمي، أي بسعرِهِ في السوق السوداء، التي تشهد تجاذبا هائلا أدى الى عرض الدولار حاليا بما يزيد عن 8000 ليرة لبنانية/ مقابل الدولار الواحد- ما يعني أن أسعار المنتجات كانت سترتفع في شكل كبير يناهز الخمسة أضعاف. في كل حال، من يسمع عن دعم المنتجات قد يخال أنها صُممت خصيصا لدعم أولئك الذين هم في أمس الحاجة الى مساعدات، لكن التقييم أظهر أن 80 في المئة من الدعم الحكومي الحاصل يستفيد منه  نحو 50 في المئة من السكان الميسورين، في حين أن نسبة 20 في المئة فقط من هذا الدعم تذهب الى الأشخاص الأكثر عوزا. هناك من قد يستغرب هذا الكلام طارحا علامة استفهام، لكن السبب بسيط وواضح وفيه أنه بما أن الدعم شامل، فإن الجميع يستفيدون منه في تعبئة وقود السيارات أو شراء ربطات الخبز، وبما أن الأسر الميسورة تستهلك عادة أكثر من سواها، طبيعي أن تحصل على "حصة الأسد" من هذا الدعم. 

صحيح أن دعم الاسعار ساهم في إبطاء ارتفاع الأسعار في الأشهر الأخيرة، وبالتالي تخفيف بعض الضغوطات مؤقتا عن كاهل جميع المقيمين في لبنان، غير أنه يمكننا الجزم بأن الأسلوب الذي اتبع ليس أفضل طريقة في المطلق لإنفاق هذا المبلغ الكبير من المال في سبيل دعمِ الأسر. الى ذلك، هذا الشكل من الدعم غير مستدام، فقد أشار مصرف لبنان في أيلول الماضي الى أن رفع الدعم قد يبدأ في آخر هذه السنة أو قد يُمدد، في حدٍّ أقصى، الى أيار 2020.

بيما يتجه لبنان بسرعة كبيرة نحو ذاك التاريخ وحيث سيجد المواطنون أنفسهم بلا دعم، يجب التفكير بجدية في مشهدية المرحلة المقبلة، ما بعد توقف الدعم، وما سيتمخض عن ذلك. واضحٌ جدا أن الأسعار سترتفع أكثر (وصل التضخم الى 137 في المئة على أساس سنوي في تشرين الأول 2020) وسيكون تأثير ذلك واضحا على مجموعة واسعة من السلع والمنتجات، كثير منها أساسية ولا يمكن استبدالها أبدا بسلع ومنتجات أخرى. ومن ميلٍ آخر، ستشهد الشركات اللبنانية زيادة كبيرة في تكاليف الإنتاج. وسيكون لكلّ ذلك آثارا مدمرة على الأسر في جميع أنحاء البلاد، فتقفز معدلات الفقر أكثر ويزداد اللا مساواة والتهميش. وهذا كله سيكون له ارتدادات خطيرة على التماسك الإجتماعي، الهش أساسا، في لبنان.

الأسر التي تعيش في لبنان في ظلِّ معاناة يومية جراء صعوبات تواجهها في رعاية الأطفال من ذوي الإحتياجات الخاصة أو كبار السن، تتلقى دعما قليلا أو لا تحصل أساسا على أي دعم يُخولها القيام بتلك الرعاية، مع العلم أن احتياجاتها كبيرة وكثيرة تتجاوز ما قد تحتاج إليه الأسر الأخرى، ناهيكم أن أفرادها لا يملكون غالبا المقومات التي تخولهم العمل من أجل مواجهة التكاليف العالية. وتواجه الأسر التي تضمّ أطفالا خيارات صعبة متزايدة، كأن تمتنع عن عرض الطفل المريض على طبيب، أو تعمل على "قوننة" الإنفاق على اطفالها الى الحدّ الأدنى، أو حتى اللجوء الى عمالة الأطفال أو زواج الأطفال المبكر، مع ما يحمل كل ذلك من مشاكل وعلل إجتماعية وصحية.   

على مستوى التنمية في لبنان، تمتلك معظم الدول "مظلة" تستطيع من خلالها تخفيف وطأة مثل هذا السقوط: من خلال نظام حماية إجتماعية- نظام يدعمكم حين تكونون عاطلين عن العمل، ينقذكم إذا وقعتم في عوز، ويدعم- في شكل سريع وحاسم-  كل الأشخاص الذين يعيشون يوميا مع صعوبات في "دورة الحياة". برامجُ المنح والمساعدات الإجتماعية هذه، من منحٍ خاصة بالأطفال وذوي الإحتياجات الخاصة والمعاشات التقاعدية، تُشكل ركائز أساسية مُثلى لإرساء أنظمة حماية إجتماعية في مختلف أنحاء العالم. أما هنا، في لبنان، فلا يوجد مثل هذا النوع من المظلات الإجتماعية. وبالتالي إذا كنتم من الأشخاص الذين تفتقرون الى وجود سند أو دعم في مكان آخر، كوجود مدخرات سابقة أو دعم مجتمعي، فستجدون أنفسكم حتما فرادى.  

تُلقي الورقة الصادرة من منظمة العمل الدولية واليونيسف الضوء على القرارات الإستراتيجية المطلوبة لإنشاء أرضية صلبة تُرسي الحماية الإجتماعية في لبنان. واستنادا الى تحليلنا، فإن الفجوة الأكبر في نظام المساعدة الإجتماعية في لبنان تكمن في غياب المنح الإجتماعية الشاملة. فالدعم الرسمي يشمل حاليا الجميع، بمن فيهم الأسر الأكثر عوزا والطبقة الوسطى. ومعلوم أن برامج المساعدة الإجتماعية المؤقتة أو التفاعلية أو المستهدفة لن تكون كافية لتعويض خسائر المجتمع.

لا يختلف إثنان على سوداوية الوضع القائم، لكن، بغض النظر عن اليأس الذي يشعر به كثيرون جراء وجود لبنان على شفير الهاوية، يهم جدا إدراك أنه من دون وضع نظام شامل للضمانات الإجتماعية سيكون لبنان أمام كارثة إجتماعية أكبر، أكثر من ستطالهم هم الأشخاص الأكثر ضعفا في البلاد.

 إذا كان لبنان قادرا على إنفاق مبلغ 4 مليارات دولار أميركي في عامٍ واحد على الدعم والمساعدات- وإفادة الميسورين منها، في شكلٍ عفوي وعن غير قصد- فلماذا لا يتم إنفاق بعض هذا المبلغ، جزءا يسيرا منه، من أجل سدّ هذه الفجوة الواسعة في نظام المساعدة الإجتماعية من خلال وضع مخطط المنح الإجتماعية؟ يتحقق ذلك عبر الإنطلاق، في شكلٍ واقعي، من خلال توزيع إعانات تستهدف ربما الأطفال الأصغر سنا، أو منح مخصصات الى ذوي الإحتياجات الخاصة أو معاشات تقاعدية الى كبار السن- على أن يتحقق ذلك عبر تحقيق رسمي بسيط وشفاف، يُصار من خلاله الى إستبعاد الأسر الميسورة، وإتاحة الوصول الى مئات آلاف الأسر الأكثر ضعفا، من خلال نسبة قليلة من الموارد التي تُنفق على المساعدات. ولعلّ نظام المنح والمساعدات هذا سيكون قادرا على دعم هذه الأسر، في الأوقات الصعبة، (والتي تزداد صعوبة) وتقليل إحتمال حاجة تلك الأسر الى أخذ خيارات صعبة قد تضرّ بها وبأفراد المجتمع الأكثر ضعفا.

الآن، توسيع مدى وحجم المساعدة الإجتماعية هو السبيل الوحيد لضمان عدم مجيء التسويات الإقتصادية الثقيلة في لبنان على حساب الطبقتين الوسطى والأكثر ضعفا في البلاد. لذا، من شأن برنامج المنح والمساعدات الإجتماعية، المساعدة في تهيئة ظروف التعافي السريع وصيانة شرائح إجتماعية تملك من الكثير الغنى غير المادي،. هي شرائح تمثل الرأسمال البشري والإجتماعي في لبنان.

واضحٌ جدا أن نهج "الإنتظار والترقب" المعتمد هو أحد أسوأ الخيارات الممكن إعتمادها. وبالتالي، إذا تُرك لبنان خلال الأسابيع والاشهر المقبلة وحيدا، لمصيرِهِ، بلا تخطيطٍ دقيق لسيل الأزمات التي يتخبط فيها وأزمته الجديدة الوشيكة، فإن التأثير على حياة ناس لبنان، والأسر الأكثر ضعفا، سيأتي مدمرا ويقضي على ما تبقى من أمل.